ما من منطقة في العالم تعرضت فيها التنبؤات العلمانية لامتحان قاس وتمحيص عسير مثل المنطقة العربية الإسلامية، ولعل هذا ما حدا بالكثير من الأكاديميين والسياسيين والإعلاميين الغربيين للحديث عما أسموه الاستثناء الإسلامي، والفشل الإسلامي، والممانعة الإسلامية، وما شابه ذلك من أوصاف تدل على عسر هضم هذه المنطقة لتلك التنبؤات.
" من التعسف قراءة المشهد الثقافي والديني عبر توجهات الدولة وأجهزتها الرسمية أو عبر النخب على ما لهما من تأثير، لأن بلدا علمانيا كتركيا يبدو فيه المجتمع شديد الميل إلى التوجهات الإسلامية، في حين أن إيران حيث تقوم الدولة على أسس إسلامية شيعية صارمة، تنجذب قطاعات واسعة فيها نحو التوجهات العلمانية " |
كان المستشرق البريطاني هاملتون جيب الذي عرف باطلاعه العميق على أوضاع المنطقة وأحوال شعوبها، فضلاً عن إتقانه اللغة العربية ومعرفته الثاقبة بالثقافة الإسلامية، قد عبر عن مخاوفه الشديدة منذ ثلاثينيات القرن الماضي من أن موجة التغريب الكاسحة التي تجتاح مصر وبقية البلاد الإسلامية ربما تأتي على ما تبقى من مؤسسات الإسلام العريقة ومواريثه المديدة، ومن ثم تخلف وراءها فراغاً مروعاً في الضمير والاجتماع الإسلاميين، لا يقوى التحديث على ملئه ولا تعويضه. وخلافا لهذه المخاوف العميقة التي عبر عنها جيب بدايات القرن الماضي فإن جل الباحثين فيما أضحى يعرف اليوم بخبراء الإسلاميات أو الشرق الأوسط، يعبرون عن هواجس مغايرة تماما.
إن ما يشغل اهتمامهم ويثير مخاوفهم أكثر هو صعود حركة "الأسلمة"، ما يعتبرونه تَهديداً واسعاً "لقيم" الحداثة والعلمانية نتيجة هذا الصعود.
ولا ريب أن أي زائر اليوم لمدن إسلامية كبرى كالقاهرة وإسطنبول ودمشق والجزائر والدار البيضاء وغيرها، سيشد انتباهه ما تشهده تلك العواصم من حالة "أسلمة" واسعة النطاق تركت آثارها في مختلف مظاهر الحياة الخاصة والعامة: في الأسواق، وفي زحمة الشوارع، وفي ملابس النسوة، وفي الإقبال على المساجد والنشاط الديني، بل إن شئت فقل في كل شيء.
من المعلوم أن الرقعة العربية الإسلامية قد تعرضت لحركة تحديث وعلمنة واسعة النطاق خلال القرنين الأخيرين، وإن كانت متفاوتة التأثير والانتشار من قطر إلى آخر، ومن قطاع اجتماعي إلى غيره.
غير أنه من التبسيط المخل قراءة واقع العلمنة في المنطقة من خلال مشهد الدولة وأجهزتها الرسمية التي لا تقدم صورة كاشفة عن واقع الدين أو العلمنة على السواء.
ففي بلد مثل تركيا حيث تنحو الدولة منحى علمانياً جذريا، يبدو المجتمع شديد الميل إلى التوجهات الإسلامية، في حين أنه في بلد مثل إيران حيث تقوم الدولة على أسس إسلامية شيعية صارمة، تنجذب قطاعات واسعة نحو التوجهات العلمانية كشكل من أشكال الاحتجاج الصامت على خيارات الدولة.
وهذا ما يجعل من التعسف قراءة المشهد الثقافي والديني من خلال توجهات الدولة وأجهزتها الرسمية، أو من خلال نافذة النخب الفكرية والسياسية الضيقة على ما لهما من تأثير. ولهذا السبب -ربما- يبدو من المبالغة الحديث عن حركة علمنة بأتم معاني الكلمة في الرقعة العربية الإسلامية.
فإذا استثنينا تركيا التي تبنت علمانية صارمة على شاكلة الثورة الفرنسية ونصت على ذلك رسمياً في دستورها، ثم الحالة التونسية نسبياً التي نهجت فيها الدولة منهجاً علمانياً جذرياً، دون أن تنص على ذلك دستورياً، فإن حركة العلمنة في أغلب البلاد العربية والإسلامية تبدو ضامرة الحضور متخفية التعبير، بما في ذلك في مصر أهم المراكز السياسية العربية التي يمكن أن تقاس على ضوئها حركة الأفكار واتجاهاتها المستقبلية في عموم المنطقة العربية.
بل إن بعض الأقطار العربية والإسلامية التي تبنت خيارات علمانية صارمة -كما هو حال تونس وسوريا وتركيا- تواجهها اليوم صعوبات هائلة، وتقابل بحركة "أسلمة" منبعثة من البنى التحتية للمجتمع، ما يضطرها في الكثير من الأحيان للجوء إلى المناورة والمخاتلة في التعبير عن توجهاتها العلمانية، وإلى الاستعمال الذرائعي للشرعية الدينية، ناهيك عن اشتداد عود التيارات الإسلامية في الرقعة العربية والإسلامية كأهم تيارات المعارضة السياسية.
فمنع المرأة المسلمة في بلد مثل تركيا أو تونس مثلاً من ارتداء الحجاب بنص القانون لم يحل دون إقدام عدد واسع من النساء التركيات والتونسيات على التحجب، ما عمق التناقض بين تشريعات قانونية بالغة الصرامة العلمانية وواقع اجتماعي يتجه نحو التدين يوماً بعد يوم.
أما إذا نظرنا إلى حركة العلمنة من جهة القوى الاجتماعية والسياسية الحاملة لها، فإنها تبدو في حالة وهن وضعف بالغين، وليس ثمة ما يشير إلى أن حالة الضعف هذه حالة عابرة ومؤقتة.
بيد أن ثمة ظاهرتين تطبعان حركة العلمنة والأسلمة، على نحو ما تبرز ذلك التجربتان الإيرانية والتركية الجديرتان بالرصد والمتابعة من لدن الباحثين والمراقبين للشأن الإسلامي. أولا- الصعوبات الكبيرة التي تواجهها عملية الأسلمة الفوقية عبر استخدام أدوات الدولة لفرض خيارات ثقافية وأنماط حياة وأذواق محددة، على نحو ما تبرزه التجربة الإسلامية في إيران، إذ قوبلت -ومازالت تقابل- عملية الأسلمة الصارمة التي تبنتها إيران بعد الثورة الإسلامية عام 1979 بنوع من التململ الخفي والمعلن بين قطاعات اجتماعية ليست بالقليلة، وخصوصا بين المثقفين وفئات الشباب والنسوة الأكثر انجذابا لمظاهر الحياة الغربية
.